هنا مقالة ثانية تناقش مقالة د. قائد غيلان "أحفاد الأئمة يحرمون الغناء" التي نشرتها "خيوط" بمناسبة يوم الأغنية اليمنية، في الأول من يوليو 2024.
طالعتُ مقالة الدكتور قائد غيلان المنشورة في موقع "خيوط": "أحفاد الأئمة يحرمون الغناء"، وكذلك ردّ الأستاذ حسن الدولة، الذي حاول أن ينفي أن يكون الغناء والموسيقى محرمًا خلال تلك الحقبة.
المراجع المكتوبة حول الحياة الموسيقية والفنية إبان حكم الإمامة قليلة جدًّا، بل ونادرة؛ لهذا فإنّ أغلب الباحثين يعتمدون على المرويات والقصص الشفهية المتناقلة؛ بعضها تؤكّد تحريم الغناء والموسيقى عند الأئمة، وبعضها تُبدي نوعًا من التسامح حول الغناء والعزف. في هذه المقالة، سنحاول ذكر بعض تلك القصص والمرويات الشفهية المتعلقة بالفن في عهد الحكم الإمامي، وربطها بما يحدث الآن من ممارسات ضدّ الفن.
يوجد في اليمن واحدٌ من أروع الفنون الغنائية التقليدية في منطقة الجزيرة العربية، وهو الأغنية الصنعانية أو ما يعرف بالموشح اليمني، الذي كانت بداية ظهوره مرتبطة بظهور الشعر الحميني في العهد الرسولي، وانتقلت هذه الأغاني من جيلٍ إلى جيل عن طريق الممارسة التقليدية والشفوية، ولا يُعرف من هو الملحن والمؤدّي الأول لتلك القصائد المغناة، ويُكتفَى بالإشارة بجملة (لحن تراثي). هذا التغييب للملحن والمؤدي الأول لتلك الأغاني، يعود إلى نظرية العيب الاجتماعي والحرام للموسيقى والغناء، فالملحن يقوم بتلحين تلك القصائد، لكنه يحرص على إخفاء هويته خوفًا من العيب الاجتماعي، هناك فرضية بأنّ بعض الشعراء الحمينيّين هم أنفسهم ملحّنو تلك الأغاني التراثية، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ أهمّ الشعراء الحمينيين للأغنية الصنعانية التراثية هم أفرادٌ من الأُسَر الاجتماعية من طبقة الهاشميين أو من طبقة القضاة (أمثال: ابن شرف الدين، العنسي، الآنسي، المفتي)، فإنّ هذه المكانة الاجتماعية الرفيعة قد أعطتهم نوعًا من الحرية والانفتاح، استطاعوا من خلالها إقامة الجلسات الفنية الخاصة بهم، والقيام بممارسة التلحين والغناء في أجواء شبه منفتحة.
•الإمام لا يسمع الغناء
في سيرة الإمام الهادي الذي أدخل المذهب الزيدي إلى اليمن، ورد أنه قال: "لم أرتكب قطّ فاحشة الزنا، ولا أكلت درهمًا من الحرام عارفًا بذلك، ولا شربت مسكِرًا، ولا استمعت للغناء..."، الموسيقى والغناء لدى الأئمة ليس حرامًا مطلقًا وليس عيبًا كاملًا، هناك فتاوى تحريم لبعض علماء الدين، لكن لم تصدر فتوى رسمية بالتحريم أو قانون من الدولة يحرم فيه ممارسة العزف والغناء، ولا توجد عقوبة معينة لمن يمارسه، إنما كان يُصنَّف ممارسو الغناء والعزف ضمن الطبقات الدنيا ويُنظَر لهم نظرة دونية كونهم يمارسون شيئًا قد يغضب الله ويفسد المجتمع بنشر اللهو والمحرمات، إلّا أنّ من يمارسها من طبقة الأُسر الرفيعة لا يقلل ذلك من مكانته الاجتماعية، وانخراط العديد من أبناء تلك الأُسر في مهنة العزف والغناء وممارستهم لها في العلن، متحدِّين بذلك التزمت الديني والاجتماعي للمجتمع اليمني تجاه الفن، أدّى إلى تغيير النظرة حول من يمارس مهنة الغناء والعزف. حتى إنّه عند افتتاح إذاعة صنعاء في منتصف الخمسينيات، طُلِبَ من الفنّانين التسجيل في إستوديوهات الإذاعة، فلم يتجرأ أحدٌ للتسجيل سوى الفنّان قاسم الأخفش، ومِن ثَمّ لحقه بعض الفنّانين للتسجيل.
خلال الصراع التركي في اليمن، حصل قحط وجفاف فأقام الناس صلاة الاستسقاء والدعاء إلا أن المطر لم يهطل، فذهب الفقهاء ورجال الدين إلى الإمام وأخبروه أن هذا القحط سببه انتشار الرذائل والمجون وانتشار المعازف والأغاني، فأمر بحبس تجار الخمور وكسر آلات العزف وتعليق آلة العود على أحد أبواب صنعاء لتكون عبرة، نجد هذه النبرة هي نفسها المستخدمة حاليًّا، حيث يتم اتهام كل ما له علاقة بالفن، بأنه سبب تأخير النصر.
وقد كان هناك نوعان من الأماكن التي يمارَس فيها الغناء؛ مكان خاص بعلية القوم ويحضرها كبار رجال الدولة والعلماء والمثقفون، وتكون إما في المفارج أو المناظر، أمثال الجلسات الفنية في منزل (العزي السنيدار)، حتى إن الإمام أحمد كان لديه نديم خاص يحضر جلساته الخاصة ويمارس فيها الغناء، وهو الفنان والشاعر (أحمد السالمي)، والمكان الثاني هو الذي يمارس فيه العامة الغناء، إذ كان يقام بسرية بعيدًا عن أعين الناس والشرطة، وفي الأدوار السفلية من المنازل بما يعرف بـ(الحَرّ)، ويتم تغطية جميع المنافذ والفتحات بالوسائد والأقمشة حتى لا يطلع الصوت إلى خارج الغرفة.
من خلال القصص المنقولة عن الحياة الفنية في عهد الحكم الإمامي والحياة الفنية في الوقت الحالي، نجد أن التاريخ يعيد نفسه.
• خلال الصراع التركي في اليمن، حصل قحط وجفاف، فأقام الناس صلاة الاستسقاء والدعاء إلا أنّ المطر لم يهطل، فذهب الفقهاء ورجال الدين إلى الإمام وأخبروه أنّ هذا القحط سببه انتشار الرذائل والمجون وانتشار المعازف والأغاني، فأمر بحبس تجار الخمور وكسر آلات العزف وتعليق آلة العود على أحد أبواب صنعاء لتكون عبرة، نجد هذه النبرة هي نفسها المستخدمة حاليًّا؛ حيث يتم اتهام كل ما له علاقة بالفن، بأنه سبب تأخير النصر.
• كان فنّانو الأغنية الصنعانية (الموشح اليمني) يمارسون الغناء في الخفاء إلى أن حصلوا على بعض الحرية مع العصر العثماني الذي كان يتساهل نوعًا ما مع الموسيقى، والذي أدخل بعض الآلات الموسيقية العسكرية إلى اليمن؛ ممّا سمح لبعض الفنانين بممارسة الغناء بجزء من الحرية، أمثال الفنان الشيخ سعد عبدالله، والفنان الشيخ جابر رزق قبل أن يتحول إلى الصوفية. وبعد خروج الأتراك من اليمن وتولِّي الإمام يحيى، تم تجريم الغناء وملاحقة الفنانين، وكان كل من يمارس الغناء يتعرض للمكايدات والملاحقة والمضايقة من رجال الدولة والمتشددين دينيًّا وتُنشَر الإشاعات حول حياتهم الفاسدة، ممّا يعرضهم للتنكيل، فاضطر معظمهم إلى الفرار والهجرة، منهم: محمد الماس، أحمد العطاب، صالح العنتري، محمد شعبان.
•العود حابس المطر
وفي الوقت الحالي، وبعد أن وجد الفنانون حرية مطلقة لممارسة الغناء في عهد الجمهورية، عادت الآن المضايقات والملاحقات لكثير من الفنانين؛ مما اضطر بعضهم إلى الفرار والهجرة.
• صنعاء مدينة مفتوحة، وأهل صنعاء مجتمع مثقف منفتح؛ لهذا كان الأئمة يتجنبون الممارسات المتطرفة المتعلقة بالفن في صنعاء، فكانت تغض البصر عن ممارسة العامة للغناء إذا كان بعيدًا عن الأنظار، وكانت تعمل حملات ضدّ الفن في حالات الكوارث والحروب، بحجة أن الغناء أغضب السماء، ويروى أن القاضي محمد الحجري كان قد نصح الإمام يحيى ألّا يمارس فتاوى متطرفة ضد الفن، مستشهدًا برأي ابن حزم: "تحريم الأموال قَطعيّ، وتحريم الغناء ضمنيّ"، أما المدن الأخرى فكانت تمارس التطرف ضد الفن التقليدي، ومنها الممارسات التي تعرض لها جابر رزق في قرية القابل، وقصة تكسير الآلات الموسيقية في المحويت أمام أعين المواطنين، كما أنه كان يتم تعليق الأعواد أمام أبواب مباني الأمن؛ تحذيرًا للفنانين.
نجد هذه الممارسات الآن في مدينة عمران، من ملاحقة الفنانين وحبسهم والتنكيل بهم.
• بالرغم من التشدّد الديني والرقابة الصارمة التي فرضتها السلطة في عهد الإمامة على شراء وجلب الأسطوانات من عدن وفرض عقوبات، إذ إن مَن وُجد لديه أسطوانات يتم تكسيرها مع الجهاز المشغل لها (الفونُغراف) مع حبس البائع والمشتري- فإنّ الأسطوانات الغنائية انتشرت منذ الأربعينيات، حيث كانت تُهرَّب بحذر شديد من عدن إلى تعز وصنعاء، وكانت توضع في الشاحنات وتُغطَّى بالبضائع.
وحاليًّا يتم مصادرة الآلات الموسيقية وأجهزة الصوت من قبل السلطات في بعض المحافظات.
ذُكِرَ أنّ الأغنية الصنعانية في شقّها الكوكباني حبيسة المحلية، ولم تجد حظها من الانتشار، لا نعرف على ماذا اعتمد الدكتور غيلان في تصنيف الأغنية الكوكبانية، وأنها جزء من الأغنية الصنعانية. هذا التصنيف غير دقيق، فمن المعروف أن الأغنية الصنعانية (الموشح اليمني) لها ثلاثة إيقاعات (الدسعة، الوسطى، السارع)، ويضيف إليها بعضهم إيقاع (الكوكباني)، وهذا لا يعني أنّها جزء من الأغنية الصنعانية.
• في الأربعينيات من القرن الماضي، قامت ثلاث فنانات بالهروب من صنعاء إلى عدن وسط أكياس البضائع، وقمن بتسجيل مجموعة من الأغاني على الأسطوانات، وفي إذاعة عدن وبأسماء مستعارة، هي: (المتحجبة، بنت البلد، فاطمة الصنعانية)، وتُعتبَر تلك أولَ تسجيلات لأصوات نسائية في اليمن.
تم حاليًّا القبض على ثلاث فنّانات في مدينة عمران؛ بسبب إحيائهن حفل زفاف.
•بين الصنعانية والكوكباني
إضافة أخيرة حول مقال الدكتور قائد غيلان فيما يخص الأغنية الصنعانية، حيث ذكر أن الأغنية الصنعانية في شقها الكوكباني حبيسة المحلية، ولم تجد حظها من الانتشار، لا نعرف على ماذا اعتمد الدكتور غيلان في تصنيف الأغنية الكوكبانية، وأنها جزءٌ من الأغنية الصنعانية. هذا التصنيف غير دقيق، فمن المعروف أنّ الأغنية الصنعانية (الموشح اليمني) لها ثلاثة إيقاعات (الدسعة، الوسطى، السارع)، ويُضيف إليها بعضهم إيقاع (الكوكباني)، وهذا لا يعني أنّها جزءٌ من الأغنية الصنعانية، كما أنّ محلية الأغنية الصنعانية غير صحيح، فالأغنية الصنعانية (الموشح اليمني) هي أرقى أنواع الفنون في الجزيرة العربية، وقد تجاوزت نطاقها الجغرافي اليمني، سواء قديمًا أو حديثًا، ففي الثلاثينيات إلى الستينيات كانت أسطوانات إبراهيم الماس توزع بكميات كبيرة في دول الخليج العربي، حتى إنّ بعض شركات التسجيل الخليجية قامت بتسجيل بعض الأغاني الصنعانية لفنانين يمنيين، كما أنّ رواد الأغنية الخليجية، أمثال: ابن فارس، وابن وليد، قد تغنّوا بالأغاني الصنعانية، وسجّلوا بعض تلك الأغاني على الأسطوانات، ومن الجيل الثاني الفنان محمد عبده الذي كان انطلاق شهرته من خلال أدائه الأغاني الصنعانية. وفي الوقت الحالي، إذا ما اعتبرنا أنّ ما يقدّمه الفنّانون الشباب في صنعاء يندرج تحت مسمى الأغنية الصنعانية، فإننا نجد أنّ تلك الأغاني لاقت رواجًا كبيرًا على المستوى العربي.