تُوُفّي غابرييل غارسيا ماركيز (1924 – 2014)، سَاحِر أراكاتاكا وأحد أفضل كُتَّاب هذا العالم، في 17 أبريل 2014. وإذا ما استعدنا مراحله الأولى فمن الصعب أن نتوقع ما صار إليه، إذ من الواضح أنَّه لم يكن مُقدَّرًا له أن يصعد إلى العلياء؛ وُلِدَ فقيرًا وتولَّى تربيته جَدَاهُ لأُمِّه، وكان صحفيًّا محترفًا امتاز بالمثابرة، وقد ظلتْ روايتُه الأولى "الأوراق الذابلة" مطويةً سبع سنوات قبل أن يتمكَّن من نشرها. ونشر كتابًا آخرَ في بداياته "في ساعة نَحْس"، ومرَّ دون أن يثير أيّ ضجة. بعد ذلك، في عام 1967 أثناء ذروة صعود ثقافة التَّحرر، نشر "مئة عام من العزلة"، وهي أعظم منجزاته، أكسبته ثناء النقّاد، وجمهورًا من القراء على مستوى العالم، وأوصلته في الأخير إلى جائزة نوبل.
لقد كان غابو، كما يحلو لجمهوره أن يلقّبه، يتمتع بذلك النوع من التأثير الذي لم يحظَ به سوى قلة من المبدعين في أيّ قرن من القرون، وفي جنس أدبي محدَّد. لا أحد يتفوّق على غارسيا ماركيز في التصوير الدرامي لفشل النزعة الواقعية للعالم الأول في مواجهة واقع العالم الثالث (أو أطياف الكولونيالية). وليس هناك من يُجارينا نحن أبناء ما يُعرف مجازًا بسكان الجنوب في وضع استراتيجية بشأن الكيفية التي يمكن من خلالها تصوير واقعنا المستحيل، أو التدخل بشكلٍ هادف في الصراع الإمبريالي بين الحقيقي والواقعي.
لقد غيَّر غارسيا ماركيز الفنّ إلى الأبد، هذا مجمل ما يمكن قوله. وأما ما قدَّمه لأمريكا اللاتينية، ولكُتَّاب منطقة البحر الكاريبي، فعلى الأرجح يقلّ في ضخامته بفارقٍ صغير فحسب: لقد فتح للفن بابًا يستحيل على أيّ قوة في هذا الكوكب أن توصده. ولا أظنني الوحيد في اعتقادي بأنني ما كنتُ لأصبح الكاتب الذي أنا عليه لولا الفتوحات التي أحدثها.
قبل أن تُجبر اضطراباتُ الذاكرة غارسيا ماركيز على التوقف عن الكتابة بشكلٍ نهائي، كان يعمل على نحوٍ متقطع في كتابة رواية أخيرة لم يكملها بطريقةٍ تروق له. وبعد أن كتب غارسيا ماركيز خمسَ مُسَوَّدات قال لأبنائه: "هذا الكتاب ليس ذا قيمة. ولا بدّ من إتلافه".
لقد كان يعني تمامًا ما يقوله. وهذا الأمر يُدْركه على نحوٍ مؤكّد الذين حاولوا الوصول إلى مُسَوَّدات أعماله الأولى، فماركيز كان صاحبَ عادة صارمة في إتلاف مُسَوَّداته، وما كان يساوره أيُّ خجلٍ من ممارسة الصلاحيات المُطْلقة للكاتب في تحديد ما هو جدير بالنَّشر من أعماله وما يَنْبغي حجبه. ولعلّ ذلك كان نهجه في الحفاظ على أسطورته الأدبية.
في الوقت الحالي من الوارد معرفتكم بآخر حلقات المسلسل؛ فقد تجاهل أبناء غارسيا ماركيز رغبات والدهم ونشروا بعد وفاته العمل الذي كان من المفترض إتلافه بوصفه روايةً "مفقودة"؛ وكانتْ ستُعْتَبر مفقودة؛ لأنّ مجلة النيويوركر نشرتْ مقتطفات منها في عام 1999.
تتمحور أحداث رواية "نلتقي في أغسطس" حول شخصية آنا ماجدالينا باخ التي تقوم كلَّ عام برحلةٍ إلى جزيرة في البحر الكاريبي حيث أصرَّتْ والدتُها على أن تُدفن هناك، فتُجدِّد مَعَالم القبر وتنقل إلى والدتها أخبار عالَمها:
«كانت تكرر هذه الرحلة في 16 أغسطس من كلّ عام، وتستقل سيارة الأجرة نفسها، وتشتري الزنبق من بائع الزهور نفسه، وتحت أشعة الشمس الحارقة في تلك المقبرة الفقيرة تقوم بوضع باقة الزَّنْبَق الطَّرِي على قبر والدتها. بعد أن تُغادر المقبرة، لا يكون لديها ما تفعله حتى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، وهو موعد عودة العَبَّارة التي أقلتها إلى الجزيرة».
تبلغ آنا ماجدالينا باخ من العمر ستةً وأربعين عامًا في بداية الرواية، و«حظِيَتْ بزواجٍ متكافئ مع رجل أحبَّتْه وأَحَبَّها وتزوجتْهُ وهي عذراء دون علاقات سابقة قبل أن تُنهي دراستها الجامعية في الفنون والآداب»، إنَّها النموذج ذاته للمرأة الجادّة الواثقة بنفسها. فهي تنتمي إلى الطبقة العليا، ومُتعلمة، وقارئة للروايات، وعاشقة للموسيقى، وراقصةٌ من طرازٍ رفيع. كما أنّها في الوقت نفسه امرأة جميلة تتمتع «بعينين ذهبيتين» ولها بَشَرة تحاكي «لون دِبْس السُّكر ومَلْمَسه»- وهي تدرك ما هي عليه. بعبارة أخرى، إنَّها نسخة من ماريا** ماكوندو.
خلال زيارة المقبرة التي تَسْتَهِلُّ بها الروايةُ أحداثَها، تذهب آنا إلى سرير رجلٍ غريب لأسباب يجري وصفها بشكلٍ ضبابي في أحسن الأحوال، وهذا تصرُّفٌ لم تُقدِم عليه من قبل. إنّه «غرينغو من أصلٍ إسبانيّ» «عَرَّف بنفسه بوصفه خليلًا من طراز نادر، قادها من غير تعجُّل إلى ذروة النَّشوة». في صباح اليوم التالي، تكتشف أنّ الخليل قد غادر، لكنه ترك لها ورقةً من فئة العشرين دولارًا، وقد أثار تصرُّفه حنقها وجعلها لا تكفّ عن التفكير فيه.
تعود آنا في العام التالي إلى الجزيرة، وتقوم بتنظيف القبر، وتتحدّت حديثًا موجزًا إلى والدتها المتوفاة (التي لم تُفصح أبدًا عن دوافع إصرارها على الدَّفن في هذه الجزيرة بالذات)، وتضع باقةً جديدة من الزنبق، وبعد ذلك عوضًا عن أن تُمْضِي وقتَها في قراءة رواية الرُّعب "يوم التريفيدز" The Day of the Triffids كما كانت تُخطِّط، راحتْ تنغمس في علاقةٍ عابرة للمرة الثانية.
إذا كنتَ تقرأ الرواية بسخاءٍ شديد أو كنتَ من أتْباع غارسيا ماركيز، فلن تبدو لك "نلتقي في أغسطس" معيبة إلى حدٍّ كبير. فالكتاب صغير الحجم وينطوي على ومضات متفرقة من تلك العبقرية التي كان لها دور في إعادة كتابة الأدب العالمي -«لقد جَعَلَتْهُ مُنقادًا إلى التكتيك المُدمِّر المتمثّل في عدم أخذ الأمور على محْمَل الجِدّ»- وعند بعضهم فإن مجرد الاستمتاع بصوت غارسيا ماركيز، دون النظر إلى مدى ما يعانيه من ضعف، قد يكون كافيًا.
إنَّ غارسيا ماركيز لا يتوقف عن تزويدنا برؤى تنبؤية حتى في كتابٍ عُرْضة للنسيان كهذا، ولكن على الأرجح ليس وفق الطريقة التي كان يتصورها أو يتمناها.
أمَّا عن نفسي، فقد وجدتُ الكتابَ صعبَ الاحتمال، على وجه التحديد بسبب خِفّته. الكتاب ببساطة يفتقر إلى الكثير ممّا نعرفه عن أدب ماركيز. فالحكمة، والشك، والتعقيد، والدفء الإنساني، والسِّحْر، جميعُها تبدو شاحبة. وكذلك هو وضع الشخصيات. من ذلك ما يرد عن آنا وعشّاقها العديدين: «حين تعرَّفتْ إليه شعرتْ كأنَّها تَعْرِفُه على الدوام»، و«في تلك المدة التي عَرَفَتْهُ، بدا لها كما لو كانت تعيش بقربه دائمًا». كأنَّ القارئ فقط من يعاني من تعاسة الحظ. يتم وصف الشخصيات في الرواية، ولكن لم يجرِ تمثِيلها تمثيلًا كاملًا، ولم يتم تقديمها على نحوٍ مُحْكَم. ولعل أكثر الشخصيات تضررًا من هذا التمثيل الناقص هي شخصية آنا؛ نحن نعرف أنَّها تقرأ، وتمارس الرقص، وأنها تحبّ زوجها، كما نعرف الكثير من شؤونها، غير أنّ كل هذا يظل معلومات تستقر في الذهن، ولا شيء منها يلامس القلب أو يحلِّق في الخيال، ولا شيء منها يغدو واقعيًّا أو حقيقيًّا.
النتيجة أن آنا ماجدالينا باخ ليستْ تعويذة، بل هي إحدى عناصرها وتنتظر لمسة سحرية لن تأتي مطلقًا.
وإذا جئنا إلى مسألة الكتابة، فهناك مقاطعُ منها تعطيك انطباعًا أنّها كُتبتْ بواسطة الذكاء الاصطناعي، ولكنه ذكاء اصطناعي لم يتم تَلْقِيمه بذخيرة واسعة من الكلمات. «عند أول التحامٍ شَعَرَتْ كأنَّها تموت من الألم، وبذهول كَرِيه كما لو كانتْ عِجْلًا يجري تشريح لحمه. لم تستطع أن تلتقط أنفاسها، وهي غارقة في عَرَقٍ بارد، لكنها راحتْ تتشبَّث بغرائزها البدائية، لِكَيْلَا يَدْهَمها شعورٌ بالوضاعة أو تسمح لنفسها بالشعور أنّها أقلُّ منه، وطَوَّحَا بنفسيهما في متعةٍ لا تكاد تُصَدَّق ذات سطوة متوحِّشة تُسْلِم قيادها للتودُّد». (الطبعة الإسبانية الأصلية، التي لا تتضمن جزئية العجل، لا تظهر أفضل حالًا من الطبعة الإنجليزية).
ما يبعث على الغرابة أنّ كِتابًا يتوسَّل بالرقص والموسيقى، ويقل ذكرهما في صفحاته.
لا عجب أنّ "نلتقي في أغسطس" كتابٌ مَسْكُون بالأشباح. فهو مسكون بوفاة غارسيا ماركيز، ومسكون بعبارة غارسيا ماركيز "لا بُدّ من إتلافه"، ومسكون بقرار أبنائه نشر الكتاب ضد رغبة والدهم. ويطارده غارسيا ماركيز الذي أُجْبِر على الرقص مرةً أخرى ضد رغبته. لن يكترث معظم القراء بلعنة الأشباح أو الرَّقص أو غيره، وهذا أمر يجب توقعه. وما استغراقنا في قصص الأشباح سوى اللحية التي تخفي مدى قلة اهتمامنا برغبات الموتى. وسيبادر الجمهور إلى انتهاز الفرصة لكي يحظى برقصة لمرة واحدة وأخيرة مع المايسترو. أمَّا في أراكاتاكا فسينتظرون وصول سياح غابو مثل جدي الفلَّاح الذي اعتاد انتظار هطول المطر.
غير أنّه إذا كان غارسيا ماركيز قد علَّمَنا أمرًا بعينه، فهو أن نأخذ بعين الاعتبار الأشباح، بصرف النظر عما إذا كانت أشباح خوسيه أركاديو الثاني، أو برودينسيو أغويلار، أو ميلكيادس، أو ثلاثة آلاف عامل قتلوا في مزارع الموز**، أو غارسيا ماركيز نفسه.
كتب سلمان رشدي، وهو أحد أكثر تلاميذ ماركيز أصالةً، في روايته "آيات شيطانية": «ما هو الشَّبَح؟ العمل غير المكتمل هو ما يكونه».
إذا كان لنا أن نَخْرج من قضية "نلتقي في أغسطس" بموعظة، فهي أننا جميعًا –لا فرق بيننا وبين غابرييل غارسيا ماركيز أو فولانو دي تال Fulano de Tal***– عبارة عن عمل غير مكتمل. بمعنى أنّ رأس المال الليبرالي الجديد لن يتركنا في حالنا أبدًا. وما مِن شيءٍ سيَصُدَّه عن سَلْب جُهْدنا، سواء كُنَّا أحياءً أو في زمرة الأموات.
إنَّ غارسيا ماركيز لا يتوقف عن تزويدنا برؤى تنبؤية حتى في كتابٍ عُرْضة للنسيان كهذا، ولكن على الأرجح ليس وفق الطريقة التي كان يتصورها أو يتمناها.
* نشر المقال الأصلي في مجلة "بوسطن ريفيو" Boston Review، في 21 مارس 2024.
** جونو دياز Junot Díaz، كاتب وروائي أمريكي من أصل دومينيكي، وأستاذ الكتابة الإبداعية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ويعمل محرّرًا للقصة في مجلة بوسطن ريفيو. من أعماله الروائية "غريق" (1996)، و"حياة أوسكار واو القصيرة الرائعة" (2007).
** هذه الأسماء والأرقام هي شخصيات وأحداث وردت في رواية "مئة عام من العزلة".
*** فولانو دي تال: فرقة موسيقية أمريكية للروك اللاتيني، تأسست في عام 1995 في ميامي، فلوريدا