ثقافة: طرابلس عاصمة الثقافة العربيّة 2024: فرصة تهدّدها التنفيعات والإهمال
يمن فيوتشر - أساس ميديا_ سامر زريق الإثنين, 05 فبراير, 2024 - 11:33 صباحاً
ثقافة: طرابلس عاصمة الثقافة العربيّة 2024: فرصة تهدّدها التنفيعات والإهمال

 

هل يعرف اللبنانيون والطرابلسيون أنّ عاصمة الشمال طرابلس هي "عاصمة الثقافة العربية 2024"، منذ 20 يوماً؟

الأرجح أنّ قليلين جدّاً من يعرفون. وهذا بداية التقصير.

لنعد إلى أصل الحكاية.

في أيار 2015، قرّرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو"، التابعة لجامعة الدول العربية، اختيار مدينة طرابلس اللبنانية "عاصمة الثقافة العربية 2021". وبسبب الظروف الأمنية والصحية (انفجار مرفأ بيروت، وباء كورونا)، وافقت "ألكسو" على طلب لبنان تأجيل الحدث إلى عام 2023، ثمّ إلى العام الحالي 2024.

وحين تكون مدينة "عاصمة ثقافية" لا يحدّ هذه التسمية تاريخ، إذ يبدأ العمل والإنتاج من 1 كانون الثاني، أوّل أيام العام، ولا ينتهي حتّى 31 كانون الأوّل، آخر أيّام العام.

هذا الحدث يشكّل فرصة ثمينة لإبراز ما تختزنه طرابلس من إرث ثقافي وحضاري، عبر أنشطة وفعّاليات تقام على مدار السنة، يدعى إليها شخصيات عربية وغير عربية. فأين أصبحت هذه الاستعدادات؟ ومتى تنطلق عجلة هذه الأنشطة والفعّاليات؟

 

هي فرصة كبيرة لطرابلس، مقرّرة منذ 10 سنوات تقريباً، لكنّها مُهمَلة وتغرق في وحول السياسة وزواريب اللجان والمحسوبين، لعلّ طرابلس تستلحق نفسها في الأسابيع والأشهر المقبلة

فكرة أوروبيّة تلقّفها العرب

في البداية لا بدّ من العودة إلى جذور هذه الفكرة للوقوف على مدى أهمّيتها. تعود الفكرة إلى وزيرة الثقافة اليونانية ميلينا ميركوري التي تقدّمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1983 بمبادرة تقضي باختيار إحدى مدن القارّة العجوز لتكون عاصمة ثقافية، بهدف تعزيز وتوطيد التمازج الثقافي بين الشعوب الأوروبية.

اختيرت العاصمة اليونانية أثينا عام 1985 لتكون أول عاصمة للثقافة الأوروبية. ومع تعاقب السنوات، تحوّلت الفكرة إلى حدث سنوي ضخم، تُرصد له ميزانيات ضخمة، بعدما صارت حافزاً للتطوّر الثقافي والحضاري في المدن التي يتمّ اختيارها. حتى إنّ الاتحاد الأوروبي أقرّ اختيار 3 مدن لتكون مجتمعة عاصمة للثقافة الأوروبية، اثنتين من دوله، وواحدة من تلك المرشّحة للعضوية، أو من دول المنطقة الاقتصادية الأوروبية.

تلقّفت المجموعة العربية في اليونيسكو الفكرة، وشرعت في تطبيقها عربياً، واختيرت القاهرة لتكون عاصمة الثقافة العربية الأولى عام 1996، تبعتها حواضر عربية أخرى، بينها بيروت عام 1999، وفق معايير معيّنة وضعتها "ألسكو" مثل الإرث الثقافي والتاريخي، مراكز البحث العلمي، المؤسسات الثقافية المحلية، على أن يقدّم المشروع مع دراسة وافية عن المدينة.

والحال نفسه أيضاً بالنسبة لعاصمة الثقافة الإسلامية التي تشرف عليها منظمة العالم الإسلامي للتربية والثقافة والعلوم "أيسيسكو"، إنّما مع اختيار 3 مدن: واحدة عربية، وثانية آسيوية، وثالثة إفريقية. لكنّها كسرت القاعدة عام 2013، لاختيار مدينة طرابلس "عاصمة الثقافة الإسلامية" إلى جانب ثلاث مدن، في خطوة دعم وتشجيع للمدينة التي كانت تشهد أحداثاً دامية. ثمّ عادت ووافقت على تأجيلها إلى عام 2014، وهو ما أفضى إلى مصادفة اختيار طرابلس الغرب الليبية عاصمة الثقافة العربية عام 2014، وطرابلس الشرق اللبنانية عاصمة الثقافة الإسلامية.

 

إرث تاريخيّ هائل.. ولكن

بناء على ما سبق، كان يجب أن تنطلق الاستعدادات قبل وقت طويل، ولا سيما أنّ هناك مشروع "Proposal" جرى تقديمه إلى "ألسكو". ومن المفترض أن تشتمل الفعّاليات، المنوط تنظيمها بوزارة الثقافة والسلطات المحلّية والمؤسّسات الثقافية في المدينة، حسب معايير "ألسكو"، على أنشطة فنّية وعروض مسرحية وزيارات ميدانية للمساجد والمدارس القديمة والتراثية، ومسابقات مدرسية وجامعية في الرسم والشعر والأدب. وكذلك معارض للصناعات الحرفية (النحاسيات – الحلويات – الصابون..)، والكتب والمخطوطات، والطوابع البريدية والعملات القديمة، وزخرفة الخطّ والفنون التشكيلية، بالإضافة إلى ورش عمل، وندوات ومحاضرات عن أعلام طرابلس.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ طرابلس تعاني من بعض الإشكاليات في البنى التحتية للسياحة الثقافية. فإذا كانت تمتلك إرثاً تاريخياً هائلاً وغنيّاً، وتزخر بالآثار والمسارح والنوادي الثقافية والأعلام والإنتاج الفكري والأدبي، فإنّها تعاني من عدم وجود أيّ فندق ضمن حدودها الإدارية، بعدما استردّت إدارة "معرض رشيد كرامي" الفندق الوحيد "كواليتي – إن" وصار مثلها وقفاً خرباً بسبب التعقيدات البيروقراطية. وسبق أن تساءلت نحو 37 هيئة ثقافية في بيان لها: "هل بإمكان مدينة من دون فنادق أن تستقبل زوّارها، وهم ربّما من كبار الرسميين عرباً وأجانب؟".

كما أنّ دور السينما فيها اندثرت، ما خلا واحدة قديمة أنقذها الفنّان الشابّ قاسم استنبولي من الهلاك، وسعى إلى إنشاء حركة فنّية شبابية حولها. وإذا ما أراد المشرفون تنظيم فعّالية في قلعة طرابلس، أبرز معالمها التاريخية والثقافية، بقصد تعريف الضيوف، وخاصة من الخارج، على الحقب التاريخية التي شهدتها المدينة، لا غرو أنّ هؤلاء سيصابون بالفزع من مشهد الآليّات العسكرية المرصوفة على أعتابها. فهل يُقال لهم إنّ الجيش أعاد إحياء دورها القديم كحامية للمدينة عبر تحويلها إلى ما يشبه "القشلة"، ولا سيما أنّ الأبنية التراثية المحيطة بها تبدو وكأنّها خرجت للتوّ من الحرب العالمية الأولى؟

 

حين تكون مدينة "عاصمة ثقافية" لا يحدّ هذه التسمية تاريخ، إذ يبدأ العمل والإنتاج من 1 كانون الثاني، أوّل أيام العام، ولا ينتهي حتّى 31 كانون الأوّل، آخر أيّام العام

انطلاق التحضيرات: نصف عام... بلا نتائج

- في 6 أيار 2023، أصدر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قراراً بتأليف لجنة مركزية للاحتفاء بطرابلس برئاسة وزير الثقافة محمد وسام المرتضى.

في 2 تشرين الأول، أصدر الأخير قراراً بتشكيل 11 لجنة متخصّصة. في الشكل أتى القرار مبهراً، من ناحية توزيع الاختصاصات، والعدد الكبير للأعضاء، ووجود خبراء ومختصّين في كلّ لجنة. أتبعه بقرار نقل جزء من دوامه ومكتبه إلى طرابلس، لمتابعة وتزخيم الاستعدادات. فصار يعقد بعض لقاءاته الرسمية في "بيت الفن" بالميناء، التابع لجمعية العزم، ممّا أثار بعض الحساسيات، خصوصاً أنّ نقابة المحامين قدمت له مكتباً وكذلك بلدية طرابلس.

أمّا في المضمون، فثمّة الكثير من الانتقادات في الأوساط الثقافية تجاه وزير الثقافة والحكومة ورئيسها. بعض النخب الثقافية، التي وقفنا على رأيها، رأت أنّ "الارتجالية والعشوائية والنفعية تشكّل السمات الرئيسية للتعامل الرسمي مع مناسبة بمثل هذه الأهميّة". يحدث هذا على الرغم من أنّ المشرفين على إدارة ملفّ التحضيرات في وزارة الثقافة من طرابلس، بدءاً من مستشار الوزير فواز كبارة، مروراً بممثّلة لبنان لدى "الأليسكو" بشرى بغدادي عدرة، وصولاً إلى الأمينة العامة للهيئة الوطنية اللبنانية لليونيسكو هبة نشابة، ابنة المفكّر والمؤرّخ هشام نشابة. وهو ما أسهم في إرساء مناخ من التفاؤل يوحي بأنّ الاستعدادات ستكون على مستوى الحدث وأهميته، لكنّ التعقيدات اللبنانية بدّدت الكثير منه.

 

كبّارة: "لا شيء بعد"

يقول مستشار وزير الثقافة فواز كبارة لـ"أساس": "منذ تولّيت مهمّتي الاستشارية في تشرين الأول 2021، انصبّ اهتمامي على الإعداد للحدث، حيث رسمت الخطوط العريضة لاحتفالية شاملة ترضي أهل الفيحاء وتمنّيات أهل العلم والثقافة فيها". ويشير إلى أنّ "كلّ لجنة تعكف على تحضير المشاريع والأنشطة التي ستقام بالمناسبة، وتأمين الدعم التقني والمادّي لها".

يبيّن كبارة أنّه "سيتمّ التركيز وتسليط الضوء على حقبة من تاريخ طرابلس الزاخر منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، مع الإضاءة على شخصيات أثرت الإنتاج الثقافي والعلمي، وإبراز التراث غير المادّي مثل المنتوجات الحرفية، والمطبخ الطرابلسي وأطباقه المميّزة. وهذا كلّه يصبّ ضمن إطار التفاعل الثقافي والفكري مع الشركاء في الوطن والأخوة العرب". على أن تتوّج هذه الفعّاليات باحتفال مركزي سيدعى إليه شخصيات عربية وغربية، من رجال علم وثقافة ودبلوماسية، وسيتمّ تحديد الموعد النهائي له في ضوء تبلور التحضيرات والاتفاق مع الجهات العربية والدولية، وإن كان الموعد الأوّلي مطلع أيار المقبل.

 

 كبارة لـ"أساس": منذ تولّيت مهمّتي الاستشارية في تشرين الأول 2021، انصبّ اهتمامي على الإعداد للحدث، حيث رسمت الخطوط العريضة لاحتفالية شاملة ترضي أهل الفيحاء وتمنّيات أهل العلم والثقافة فيها

لجان محشوّة بالعزميّين

في حين تشير مصادر من النخب الثقافية في طرابلس إلى أنّ "الاستعدادات انطلقت متأخّرة جداً، بعد مماطلة طويلة، ولا تزال حتى الساعة في المربّع الأوّل، وتميل إلى الاستعراض الخالي من العمل الجدّي. واللجان جرى تشكيلها بدون إبلاغ غالبيّة الأعضاء، وبعضهم اعتذر لعدم رضاه عمّا يجري من عبث، مثل الشاعر سابا زريق، والناشر ناصر جروس وغيرهما".

تكشف مصادر أخرى أنّ اللجنة المركزية التي أصدر الرئيس ميقاتي قراراً بتشكيلها في أيار الماضي "لم تجتمع أبداً حتى اليوم، ولا حتى اجتماع تعارف، والحال نفسه ينسحب على اللجان المختصّة. وحتى اللحظة لم يصَر إلى وضع العنوان العريض للاحتفالية ولا الشعار".

كذلك كان من الملاحظات عدم وضوح الميزانية المرصودة، والاتّكال على الجهود الذاتية والسعي لتأمين الرعاة الماليين. وأيضاً أنّ اللجان جرى حشوها بالمقرّبين، ولا سيما "العزميين" بينهم، الذين أعيد تفعيل نشاطهم منذ أيام قليلة بعد سنوات من التوقّف بقرار ذاتي. ومن جانب آخر، فإنّ اللجان الفضفاضة التي أنشأها وزير الثقافة أقصت عدداً من الهيئات والمؤسّسات الثقافية البارزة والفاعلة في طرابلس والشمال، مثل جامعة طرابلس والجنان، وصالونات ثقافية، وجمعيات كشفية، إذ اقتصرت عضوية اللجان على الكشّاف العربي فقط انطلاقاً من كون إدارته مقرّبة من الرئيس ميقاتي.

 

استبعاد جمعيّات أساسيّة

يبدي رئيس الرابطة الثقافية في طرابلس رامز الفري، عضو اللجنة المركزية للاحتفالية، في حديث لـ"أساس"، تحفّظه على "استبعاد عدد من الجمعيات الفاعلة في المجال الثقافي". ويكشف عن تقديمه لائحة إلى وزارة الثقافة تشتمل على أسماء وهيئات وجمعيات ثقافية جرى تغييبها، وأنّه طلب من وزير الثقافة إصدار ملحق بضمّها إلى اللجان، أو إنشاء لجنة جديدة تضمّها جميعاً، فـ"ما دامت وزارة الثقافة اتّخذت قراراً بإشراك هذا العدد الكبير من الهيئات والشخصيات، فلا يوجد أيّ مبرّر لاستثناء أحد. وقد أبدى الوزير مرتضى كلّ تجاوب، و"أكّد رغبته في التعاون مع الجميع لإنجاح هذه الفعالية الهامة لطرابلس ولبنان".

في المقابل، قرّرت شريحة واسعة من النخب الثقافية في طرابلس والجوار أن تتّخذ مساراً مستقلّاً عن وزارة الثقافة واللجان الحكومية، حيث تداعت إلى إنشاء تجمّع "فيحاؤنا – حاضنة الثقافة لكلّ الأزمان"، كائتلاف يضمّ كلّ الهيئات والأندية الثقافية الفاعلة. وصاغ التجمّع الوليد برنامجاً ثقافياً واسعاً وشاملاً للنصف الأول من السنة، يشتمل على الشعر والفنّ التشكيلي والسينما والمسرح والتراث الديني الرمضاني، وعمل على تسويقه والمباشرة به.

 

 

بيد أنّه لا بدّ من التوقّف عند إشكالية مهمّة أثارها الباحث زيد الفضيل، مدير البرنامج الثقافي بـ"مركز الخليج للأبحاث"، في مقال له عن فكرة "العاصمة الثقافية"، وهي الطابع النخبوي الغالب على برامج الاحتفال. وشدّد على أهميّة اشتراك جميع فئات المجتمع، من خلال توسيع البرامج لتشمل كلّ أنواع الفنون، وإقامة بعضها في الساحات والشوارع الرئيسية، بما يضمن زيادة حجم التفاعل معها، واستقطاب حضور جماهيري كبير.

بمعنى آخر ينبغي التخفّف من الطابع النخبوي المقفل، والخروج إلى الفضاءات المفتوحة والتمازج مع الناس أكثر، ولا سيما أنّ الفعّاليات التي تقام تكون محدودة الحضور، وغالباً ما تقتصر على دائرة ضيّقة من النخب الثقافية، بحيث تبدو وكأنّها تتحدّث مع نفسها فقط.

هي فرصة كبيرة لطرابلس، مقرّرة منذ 10 سنوات تقريباً، لكنّها مُهمَلة وتغرق في وحول السياسة وزواريب اللجان والمحسوبين، لعلّ طرابلس تستلحق نفسها في الأسابيع والأشهر المقبلة.


التعليقات