يؤول كل فنان فهمه وتفاعله مع مختلف المنطلقات في الحياة عبر طرق متعددة تظهر في شكل فني يوصل أفكاراً معينة، هي عبارة عن نظرته لهذا الأمر أو ذاك، وهو ما قام به 5 فنانين/ات يمنيين/ات في معرض "تَضَامّ" للصور الفوتوغرافية في معهد غوته الألماني.
مثّل الفنانون اليمن وثقافته في المعارض التي شاركوا فيها في برلين وعمّان. وهم أخيراً شاركوا في مهرجان الصورة في عمان بصور تعكس نظرة حميميّة لشكل الحياة اليومية ولحظات التآزر بين الناس في اليمن، كل من تجاربه بالرغم من هشاشة السياق المتأثر بصدوع الحرب، قدم كل منهم/ن بشكل فرديّ مجموعة من الأعمال المُختارة.
قابل رصيف22 المصورين والمصورات، للتعرف على أعمالهم/ن وسياقاتهم/ن والبيئة الثقافية التي أتوا منها، والتحديات التي يواجهونها في اليمن الواقع تحت ثقل الصراعات والحرب لسنوات طويلة.
شاركت المصورة، سميّة سماوي، مواليد 1996، في المعرض موثقة لحظات من احتفال الحنّاء، حيث تشرب النساء الشاي معاً، ويكرّسن وقتهنّ في التضامن سوياً. باستخدام التجريد كوسيلة تُظهِر سميّة جمال الطقوس اليوميّة الجماعيّة.
أما صادق الحراسي، الذي يبلغ من العمر 27 عاماً، ويعيش في صنعاء، فقد شارك بمجموعة صور توثق الطريق الريفي الذي يتبعه للوصول إلى القرية التي يأتي منها، "بيت الحراسي"، حيث اعتمد على التصوير من خلف الزجاج للحظات عابرة، للناس والأرض تجسيداً للحواجز اللامرئية بينه وبين المكان.
يقول الحراسي عن مشروعه: "يتحدث عن العلاقة بيني وبين البيئة الريفية التي أتيتُ منها، فبسبب العيش في صنعاء، انقطعت عن الريف وروابطي الريفية، وفي كل مرة أزور الريف، لا أجد تواصلي وانسجامي الكامل معه، حاولت البحث عن الحلقة المفقودة عن طريق التصوير الفوتوغرافي، فأوثق الطريق إلى القرية، تلك الطريق التي تتكرر منذ الطفولة. سميت المشروع "رسائل من اللامكان" "لأن الريف اليمني يعتبر معزولاً إلى حد ما عن العالم والإنترنت والكهرباء والخدمات، فلا تظهر قريتي في تطبيق غوغل للخرائط، بسبب عدم وجود شبكة إنترنت هناك وبسبب عدم توثيقها، فهي غير موجودة في العالم الرقمي الذي يعيش الكثيرون/ات داخله أكثر من خارجه". حسب ما قال.
بدأ الحراسي خريج الهندسة المعمارية، الذي يعمل في المجال الثقافي منذ عام 2019، إلى جانب عمله كمساعد مشاريع في منظمة لحقوق الإنسان في مجال الفن عبر الرسم والكتابة، فهو يعتبر نفسه قاصاً وحكواتياً سواء كان ذلك كان عبر الصوت، الفيلم، الصورة أو الكتابة.
ويقول: "لم يخرج من اليمن إلا اليسر البسيط من القصص، أغلبها عبر أجندات وبروبغندا تتعلق بالسياسة والحروب، ولكن القصص والتجارب الإنسانية والشخصية لليمنيين/ات أنفسهم/ن قليلة، لم يتعرف عليها المجتمع اليمني نفسه، فلا يعرف الكثيرون/ات أي شيء عن اليمن، فيفكرون أن اليمن تدمر من الحرب، وأن لا حياة فيه، ولكن هذا غير صحيح فنحن هنا نعيش ونكتب ونصور ونغني رغم كل الصعوبات الكثيرة التي تواجه ممارساتنا الثقافية اليومية".
لم تتح الفرصة للفنانين أن يحضروا المعرض أثناء إقامته في برلين، ولكن سنحت لهم الفرصة أن يشاركوا في المعرض الذي أقيم في عمّان وأيضاً زيارة برلين لاحقاً، حيث خاضوا/ن ورشة تدريبية في مجال السرد القصصي، وعرض بورتفوليو مع فريق "اوستكرويز".
•منزل الأجداد
أول ما خطر على بال الفنانة عبير عارف، 28 عاماً، عندما قرأت إعلان دعوة المشاركة في معرض صور "تَضَامّ"، هو عائلتها، خاصة أنه تزامن مع زيارة جدها لليمن.
"معظم أفراد عائلتي مغتربون/ات يعيشون خارج اليمن وفي دول مختلفة، مما يجعل حياتنا مليئة بالشوق والحنين، ولحظات اللقاء مليئة بالدفء ودموع الفرح والحزن، وعلى رغم طول فترة الغياب إلا أن اللحظات والمحادثات دافئة، وتجعلهم/ن دائماً قريبين/ات في قلوبنا مهما بعدوا/ن عنا" كما قالت.
بيّنت عارف ذلك خلال مشاركتها موضوعاً لصعوبات السفر سواء كانت عبر الجو أو براً، حيث يقطع أفراد عائلتها مسافات كبيرة وجهداً كبيراً للوصول إلى اليمن، خاصة الكبار في السن كجدها، "أتمنى أن تتحسن الظروف وتفتح المطارات وتتوقف المعاناة التي نعيشها"، ويعني لها هذا العمل الكثير، فبعد قبول مشاركتها في المعرض توفي جدها.
عارف هي مهندسة معمارية أيضاً، تستخدم التصوير الفوتوغرافي لالتقاط جمال اللحظات اليومية، كان لها معارض ومشاركات سابقة في صنعاء، دبي، بروكلين، برلين وعَمان، ونشرت لها العديد من الأعمال في عدد من المجلات العربية والعالمية.
•الحصاد الجماعي
أما البراء منصور السامعي، 26 عاماً، من مدينة تعز، فقد عكس عبر مشاركته مفهوم "تضام" في حياة المواطن اليمني اليومية، والعمل كجماعات في الحقول في موسم الحصاد، والشوارع ومحلات العمل، "ساعدنا هذا بشكل أو بآخر في التخفيف من أعباء الحرب النفسية بسبب قضاء الوقت مع بعضنا البعض كأسر وأصدقاء ومجتمع".
السامعي خريج إدارة أعمال، بدأ التصوير كهواية في 2012، عبر الهاتف الذكي وأدوات بسيطة حتى تمكن من شراء المعدات الخاصة به وبدأ التصوير بشكل محترف في 2017 كصانع أفلام ومصور فوتوغرافي حر.
أشار السامعي إلى أن هذه المشاركة أكسبته العديد من العلاقات والخبرات عبر مقابلة العديد من الفنانين/ات من دول عديدة: "هي أول فرصة سمحت لي بالتعرف على هذا الكم من الفنانين/ات العرب والأجانب ورؤية أعمالهم/ن والسماع منهم/ن حولها، وأيضاً منحتني فرصة للسفر إلى ألمانيا والتعرف على ثقافتها، ومشاهدة العديد من الأفكار الخلاقة والجميلة والتي تمثل تغذية بصرية لي بجانب العديد من المعارض التي زرتها، فأنا لم يسبق لي زيارة هذا الكم من المعارض".
•أحجار مدنٍ تُحكى
شارك محمد أحمد عبدالخالق، 32 عاماً، في المعرض بالتعبير عن كلمة "تضام" بطريقة تجريدية تتمثل في المدن والعمارة اليمنية القديمة في مجموعة أعمال سماها "أحجار مدن تُحكى"، يقول عن ذلك: "في اليمن ثلاث مدن مسجلة ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو، كل مدينة تمثل حضارة مميزة في فترات زمنية مختلفة، قد تبدو تلك المدن مختلفة ومنفصلة عن بعضها في مظاهرها، لكنها في الحقيقة مترابطة ومتشابهة في وظيفتها ومفهومها، فالعمارة اليمنيّة جسّدت في أبسط أمثلتها القيم الروحيّة، التي كان مثلها الأعلى التعبير عن جسد الإنسان في حركاته المختلفة، وتعبّر عن المعنى الحقيقيّ للألفة والتضامّ والوحدة والالتحام التي أنشأها الإنسان اليمنيّ".
عبدالخالق هو محاضر جامعي ومخرج إبداعي في عدّة جامعات يمنيّة في مجال تصميم الجرافيك والتصوير الفوتوغرافي، إضافة إلى عمله كمتخصّص في بناء وتصميم العلامات التجاريّة، وقد بدأ التصوير عام 2014، يعمل على توثيق وتصوير التراث اليمنيّ، وتوثيق الثقافات المتعدّدة والمختلفة بطريقة فنيّة، كما أنه متخصّص في تصوير الماكرو والحياة البريّة والطيور في اليمن.
علق عبدالخالق على مشاركته في المعرض: "لقد وسع آفاقي ورؤيتي الفنية، فمنحني فرصة المشاركة في مهرجان عمان للصورة وعرض عملي إلى جانب مصورين/ات موهوبين/ات من خلفيات محلية وعالمية ومشاركة رؤيتي الإبداعية ووجهات نظري مع جمهور متنوع، بالإضافة الى حصولي على فرصة لزيارة برلين، وهذا ما أكسبني الكثير من العلاقات والمعارف المتبادلة مع العديد من الفنانين/ات من المنطقة العربية والعالم، بالإضافة الى العديد من الخبرات المعرفية المكتسبة".
•المشهد الثقافي اليمني
توضح عبير عارف أن الصراع الدائر في اليمن أدى إلى عدم الاهتمام بالمشهد الفني والثقافي في البلاد: "اليمن لديه تراث غني من الفن والعمارة، وهناك فنانون/ات ومبدعون/ات موهوبين/ات داخل البلاد يكافحون من أجل العمل وعرض أعمالهم/ن، إلا أن الوضع صعب خاصة في المناطق الشمالية مع القيود والصعوبات المفروضة في المجال الفني والثقافي على الأفراد والمؤسسات".
وترى أنه ينقص المشهد الدعم من الدولة: "الداعم لنا عادة هي جهات ثقافية خارجية وليست حكومية". وهو ما يتفق معها فيه بقية زملائها.
أما الحراسي فيرى بن هناك العديد من الحدود والقيود على الحياة الثقافية اليمنية، بالإضافة للانتهاكات من كل أطراف الصراع المتنازعة، وتتنوع القيود بين منطقة وأخرى، يقول: "ولكن هناك متسع لمشاركة الناس، كما أن الفضاء الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي استطاعا أن يخلقا مساحة حرة للشباب والفنانين/ات اليمنيين/ات لحراك ثقافي ولو كان قليلاً، مع التحفظ بأن هناك أيضاً قيود على حرية التعبير". مشيراً إلى أن الصعوبات تتمثل في القيود على الفعاليات والتجمعات الثقافية، وصعوبة الحصول على تصاريح لأية أنشطة ثقافية، منع الاختلاط، وصعوبة التجمع، محدودية الأماكن الثقافية، انعدام المسارح والسينما، بالإضافة لانعدام المعاهد الثقافية والفنية، فالمساحات الموجودة غير كافية، وفعالياتها محدودة جداً، بعضها يعمل في الفضاء الرقمي فقط".
أما البراء فيقول: "توقف المشهد الثقافي في اليمن نهائياً في بداية الحرب، عام 2015، لكنني حالياً أرى أن هناك جهوداً لا بأس بها تبذل في سبيل إعادة المشهد الثقافي وتحسين وضعه، لا نزال متأخرين مقارنة ببقية دول العالم والمنطقة، ففي مدينة تعز مثلاً هناك أنشطة ثقافية وحرية لا بأس بها بالتصوير وصناعة الأفلام، لكن في مناطق أخرى وخاصة الشمالية تتعذر هذه الحالة بسبب القيود المفروضة من قبل الأطراف المسيطرة هناك".
ويقول عبدالخالق: "إن التوجه في الأعمال الفنية أصبح محصوراً في زوايا ضيقة لا ترتقي لأن تعبر عن المشهد الثقافي في اليمن، نتيجة للقيود والأجندة السياسية وسلطات الواقع المنقسمة والتبعات المترتبة على الأفراد والمؤسسات الثقافية والفنية، قد يكون هنالك بعض الجهود المبذولة لكنها تظل غير قادرة على مواكبة التوجه الثقافي لدول المنطقة والعالم".
وأعترف الفنانون/ات بوجود طاقات يمنية متميزة تقوم بتمثيل الثقافة اليمنية بشكل جميل في المنطقة العربية وفي الخارج، ولكن للأسف فإن الاهتمام الحكومي بهؤلاء الشباب منعدم وغالباً ما تكون أنشطتهم فردية أو مدعومة من قبل جهات ثقافية خارجية، وقال الحراسي: "عدد المؤسسات الموجودة والناشطة قليل جداً في جميع أنحاء اليمن، كما أن المنظمات العالمية الكبرى اتجهت لدعم القطاعات التعليمية والصحة والاستجابة السريعة، بعيداً عن الثقافة والمشهد الثقافي، في السنوات الأخيرة بدأنا نرى جهوداً إلى حد ما لدعم القطاع الثقافي والمؤسسات الثقافية في اليمن سواء في جانب حفظ التراث أو في الجانب الفني والثقافي واللامادي، ولكن على استحياء، وبمبالغ بسيطة جداً".